فصل: موقف القرآن من مولد عيسى عليه السلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنظمات اليهودية ودورها في إيذاء عيسى عليه السلام (نسخة منقحة)



.موقف القرآن من مولد عيسى عليه السلام:

الله سبحانه وتعالى يصطفى رسله من بين خلقه، هذا الاصطفاء يقتضى أن يكون الرسول أشرف الناس نسبا وأطهرهم قلبا، وأزكاهم نفسا، وأرجحهم عقلا، بحيث يخلو من أي خلل ينتقص به أو أمر يعاب عليه.
وحديث القرآن الكريم عن مريم- وهي أم نبي من أنبياء الله تعالى- حديث مفعم بالأدب، فهو يتحدث عن عفتها وبراءتها التامة مما رماها به اليهود.
أما عن الاصطفاء والطهارة فيقول تعالى: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} [سورة آل عمران: 42].
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» [أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضي الله عنها، حديث رقم (3769)].
وأما عن عفتها وبراءتها من الفاحشة فيقول تعالى: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [سورة التحريم: 12].
وقال أيضا: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [سورة الأنبياء: 91].
ويلعن اليهود بكفرهم وافترائهم على مريم البهتان، فيقول: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما} [سورة النساء: 156].
فقد استحقوا اللعنة بكفرهم وافترائهم على السيدة العذراء بهتانا عظيما، وهو الزنا.
[حقيقة العلاقة بين اليهود والنصارى، صـ109- 110، بتصرف].

.الحمل بالمسيح وولادته:

حملت العذراء البتول مريم بالسيد المسيح عليه السلام وهو الأمر الذي اجتباها الله له، واختارها لأجله، ولقد فوجئت به، إذ لم تكن به عليمة، فبينما هي قد انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، أرسل الله إليها ملكا تمثل لها بشرا سويا كما قال تعالى: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا. فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا. قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا. قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا. قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا. قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا. فحملته فانتبذت به مكانا قصيا. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} [سورة مريم: 16- 23].
حملت السيدة مريم البتول بعيسى من غير أب، ثم ولدته ولم تبين الآثار مدة الحمل، ولما ولدته وخرجت به على القوم كان ذلك مفاجأة لهم، سواء في ذلك من يعرف نسكها وعبادتها ومن لا يعرف، لأنها فاجأتهم بأمر غريب وهي المعروفة بينهم بأنها عذراء ليس لها بعل، فكانت المفاجأة داعية الاتهام، لأنه عند المفاجأة تذهب الرؤية، ولا يستطيع المرء أن يقابل بين الماضي والحاضر، وخصوصا أن دليل الاتهام قائم، وقرينته أمر عادي لا مجال للريب فيه عادة، ولكن الله سبحانه وتعالى رحمها من هذه المفاجأة،
فجعل دليل البراءة من دليل الاتهام لينقض الاتهام من أصله، ويأتي على قواعده ويفاجئهم بالبراءة وبرهانها الذي لا يأتيه الريب، ليعيد إلى ذاكرتهم ما عرفوه من نسكها وعبادتها، ولذلك نطق الغلام، وهو قريب عهد بالولادة، {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} [سورة مريم: 29- 33].
- ومع ذلك أكثر اليهود فيه وفي أمه القول وكانوا يسمونه ابن البغية!
ومع أن العهد القديم بشر بالمسيح لكن لما بعثه الله إلى اليهود كفروا به وكذبوه واتهموه وحاربوه.
[معالم النصر على اليهود، د/ سعد المرصفي، صـ 52، بتصرف].
ولكن السمو الذي يتحلى به الإسلام انتصارا للحق في الدفاع عن السيد المسيح وأمه مريم- عليهما السلام- مما ألصق بهما اليهود زورا وبهتانا، لذلك أورد القرآن الكريم كل هذه الآيات في حق عيسى وأمه مما أشرنا إلى بعضها.
فهذه مريم ذكرت (37) سبع وثلاثون مرة، والمسيح وقد ذكر أكثر من (50) خمسين مرة.
ومكانة (عيسى) عليه السلام وأمه في الإسلام معروفة، لا يصح إيمان عبد إلا بالشهادة له، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته، ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» [متفق عليه].
فما معنى الروح التي ذكرت في الآيات، أو الأحاديث؟ في مثل قوله تعالى: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [سورة مريم: 16] فهي هنا بمعنى (جبريل) وفي قوله تعالى: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [سورة آل عمران: 59] بمعنى: القوة التي تحدث الحياة في الكائنات.
وهي التي عناها الله سبحانه بقوله: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} [سورة الأنبياء: 91].
فهي من علم الله وأن الله سبحانه خص نفسه بمعرفة كنهها وهو وحده الذي يمنحها القوة فتدب الحياة في أصحابها، أو يأخذها فتصبح الأجسام هامدة.
وهذه القوة التي أودعها الله عز وجل في آدم، وهي بلغه القرآن (النفخ فيه من روح الله) قال تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [سورة الحجر: 29، ص: 72].
أي أودعته القوة التي لا يعرفها ولا يسيطر عليها سواه، فجاء آدم.
وأودع هذه القوة رحم مريم العذراء التي أحصنت فرجها والتزمت العفاف وعدم مخالطة الرجال، ونتيجة لنفخ روح الله في رحم مريم، أي إيداع الله القوة التي تخلق الكائن الحي في رحم السيدة العذراء، جاء السيد المسيح، ومن هنا تجيء الآية الكريمة: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}.
كما قال الله تعالى عن جنس الإنسان: {ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون} [سورة السجدة: 9].
وأيضا فإن الله تعالى أعطى لعيسى عليه السلام هذه القوة ليستعملها- كمعجزة أمام بني إسرائيل- في هيئة الطير التي صنعها من الطين، ثم نفخ فيها فأصبحت طيرا بإذن الله كما قال تعالى: {ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله} [سورة آل عمران: 49].
وما معنى النفخ- الوارد في الآيات؟ قال الباحثون المسلمون: إن معنى النفخ هو تحصيل آثار الروح، أي أن تدب الحياة في الأجساد، ويقولون: إن منح الله القوة في كل الأرحام ضروري للحمل والحياة، وأن كثيرا من الأزواج يلتقون بزوجاتهم، ولا يحصل حمل مدة من الزمن، لان الله سبحانه لم يمنح هذه القوة التي يبدأ بها الحمل أو تبدأ بها الحياة ثم يتفضل الله عندما يشاء، فيمنح هذه القوة ويبدأ الحمل، ومعنى هذا أن نفخ الروح في الأرحام ضروري لكل البشر، وإنما ورد النص في حالتي آدم وعيسى، لأن الخلق في آدم، والحمل في عيسى جاءا بغير الطريق الطبيعي، ولكن بالنسبة لله سبحانه وتعالى تستوي كل الطرق.
ولعله يرتبط بهذا ما ذكره ابن هشام حول تفسير قوله تعالى: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} [سورة آل عمران: 8].
فإنه يذكر أن عيسى عليه السلام كان ممن صور في الأرحام كما صور غيره من بني آدم.
[سيرة ابن هشام، ج2، صـ 161، نقلا عن كتاب المسيحية د/أحمد شلبي، صـ39].
وعلى هذا فكلمة النفخ التي تكرر ورودها في القرآن الكريم متصلة بخلق آدم، أو بخلق عيسى عليهما السلام، أو بخلق طير من الطين، أو متصلة بالنفخ في الصور، نذكر أن المفسرين يرون أن معنى النفخ هو تحصيل آثار الروح، أي أن تدب الحياة، فهو تسلط الإرادة بالحياة في حالة آدم وعيسى وهيئة الطير التي أعدها عيسى، وتسلط الإرادة بالبعث يوم القيامة، وكلمات المفسرين التفصيلية هي: أصل النفخ: إجراء الريح في تجويف جسم آخر، ولما كان الروح يتعلق أولا بالبخار اللطيف المنبعث من القلب، وتفيض به القوة الحيوية فيسري حاملا لها في تجويف الشرايين إلى أعماق البدن جعل التعلق بالبدن نفخا، والمقصود تعلق الإرادة على كل حال.
وعلى هذا فخلق عيسى على هذا النمط هو على نمط خلق آدم، وخلق الطائر من الطين الذي جعله عيسى على هيئة الطير وهو تصرف لا يحتاج لجهد، ولكن المسيحيين عندما اتخذوا ذلك وسيلة لتأليه (عيسى) عقدوا الأمور، وصوروا عيسى ابن الله، والله سبحانه لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
[المسيحية، د/أحمد شلبي، صـ38- 41].
وأين هذا من قدرته تعالى؟ القائل: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [سورة النحل: 40].
ولذلك فكما بينا معنى (الروح) و (النفخ) نذكر معنى الكلمة التي وردت في قوله تعالى: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [سورة النساء: 171].
والكلمة هي كلمة التكوين، أن يقول للشيء (كن) فيكون.
وهذا استئناس بالإنجيل في موقفه الذي يتفق مع القرآن في قصة مولد عيسى عليه السلام، حيث يشترك الإنجيل مع القرآن، في تبرئة أم عيسى مما رماها بها اليهود، من فاحشة وخيانة، فتذكر الأناجيل أن أم عيسى قد حملت به قبل أن تتصل بيوسف النجار، وأن حملها تم وهي مازالت بكرا لم يقربها إنسان.
يقول متى: أما يسوع المسيح فقد تمت ولادته هكذا: كانت أمه مريم مخطوبة ليوسف، وقبل أن يجتمعا معا، وجدت حبلى من الروح القدس، وإذ كان يوسف خطيبها بارا ولم يرد أن يشهر بها قرر أن يتركها سرا، وبينما كان يفكر في الأمر إذا ملاك من الرب قد ظهر له في حلم يقول يا يوسف بن داود، لا تخف أن تأتي بمريم عروسك إلى بيتك، لأن الذي هي حبلى به إنما هو من الروح القدس، فستلد ابنا وأنت تسميه (يسوع) لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم، حدث هذا كله ليتم ما قاله الرب بلسان النبي القائل ها إن العذراء تحبل وتلد ابنا.....، ولما نهض يوسف من ونومه فعل ما أمر به الملاك الذي من الرب، فأتى بعروسه إلى بيته ولكنه لم يدخل بها حتى ولدت ابنا فسماه يسوع.
[متى، إصحاح، 1 (18- 25) بتصرف].
وكذلك نص إنجيل لوقا ببراءة مريم بكلام قريب المعنى من هذا، لكن فيه تفصيل كثير.
[لوقا، إصحاح، 2 (1- 40)].
فالأناجيل كلها تتفق على براءة مريم العذراء مما افتراه يهود. وكما قال الله تعالى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [سورة آل عمران: 59].
إن من يرى قدرة الله تعالى في خلق آدم عليه السلام من تراب، ومن غير أب ولا أم، لا يتعجب من خلق عيسى من أم دون أب، فإن الذي خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من غير أم، قادر على أن يخلق عيسى من غير أب، وما العجب في ذلك، وقد تنوعت دلائل قدرته تعالى، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر دون أنثى، وخلق عيسى من أنثى دون ذكر، وخلقنا جميعا من ذكر وأنثى، فتمت دلائل قدرته- سبحانه وتعالى- وذلك كله ليس بشيء إذا قيس إلى قدرته تعالى في خلق السماوات والأرض، كما قال: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [سورة غافر: 57].
ودلائل قدرته تعالى في سائر المخلوقات والأشياء: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا} [سورة فاطر: 44].
وإن خلق عيسى من غير أب ليس بأعجب من خلقنا نحن من نطفة أو من ماء مهين. فسبحان الله {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} [سورة يس: 36] إن خلق عيسى عليه السلام من أنثى بلا ذكر معجزة إلهية، أراد الله تعالى أن يعلم بها بني إسرائيل- وغيرهم- أن قدرته لا تتوقف في الخلق على تزاوج ذكر وأنثى، ولا تتوقف على الأسباب المادية، وإنما الله تعالى قادر على أن يخلق بأسباب، وبغير الأسباب، بل وبضد الأسباب، فسبحان من أمره بين الكاف والنون {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} [سورة يس: 82- 83].